الصحافة المصرية.. معركة الإرث والتقنية

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!


خلال 7 عقود على الأقل، مرّت الصحافة المصرية بثلاث محطات فاصلة، شكلت وجوهها وأساليبها، وضعت أسسًا لمهنة تتجاوز نقل الأخبار إلى صناعة محتوى مؤثر وموثوق.. أولى تلك المحطات كانت تجربة الأستاذ محمد حسنين هيكل (رحمه الله) في جريدة الأهرام، أسهمت في إعادة تعريف مفهوم العمل الصحفي بشكل جذري، عبر ما يعرف بـ«الديسك المركزي».

التنظيم لم يكن عملية إدارية، كان فلسفة متكاملة تنقل الصحفي من مساحة الفردية إلى منظومة جماعية.. تحول المادة الصحفية من نص خام إلى منتج متقن يمر عبر «المطبخ الصحفي» لفريق التحرير العام، عبر محطات: إعادة الصياغة، التدقيق، وضبط العناوين بما يتوافق مع الخط التحريري للجريدة.

الهدف كان واضحًا: التغلب على تناقضات ظهرت سابقًا، وصلت أحيانًا حد التعارض بين المواد المنشورة في العدد نفسه.. بعد تطبيق التجربة أصبح النجاح الصحفي يعتمد على فريق متخصص يترجم فلسفة مهنية أعادت للصحافة المصرية تنظيم طاقاتها الداخلية، وجعلت عملية التحرير نشاطًا ممنهجًا، متماسكًا ومترابطًا، يتجاوز الانفعالات اللحظية والملاحظات الشخصية.

مع ظهور الإنترنت، كانت المحطة الثانية، أحدثت ثورة حقيقية في طريقة إنتاج ونشر المحتوى الصحفي.. الوصول إلى المعلومات وتوزيعها لم يعد مقصورًا على أدوات تقليدية أو أطر زمنية محددة، أصبح بإمكان الصحفيين الوصول إلى مصادر متنوعة في وقت قياسي، ونشرها على منصات مختلفة تصل إلى جمهور واسع ومتغير.

التحول الرقمي فرض على المؤسسات الصحفية إعادة التفكير في أسلوب عملها، تنظيمها الداخلي، فرض أدوات جديدة للتحقق من الأخبار، تحديث المعلومات بسرعة، وتنسيق النشر عبر منصات مختلفة.. أصبح الصحفي مراقبًا ومتأكدًا من صحة المعلومات، ومنسقًا لانتقالها عبر المنصات بمرونة وسرعة.. هكذا أصبح العمل الصحفي أكثر جماعية ومهنية.

المحطة الثالثة نعيشها خلال السنوات الأخيرة، مع صعود الذكاء الاصطناعي كأداة جديدة تدخل المهنة من بوابة البحث والكتابة وإنتاج المسودات.. المرحلة تمثل تحديًا وفرصة في الوقت نفسه.. المؤسسات الصحفية مدعوة للسير في طريق وسط، لا يميل إلى التحفظ الكامل على التكنولوجيا ولا إلى الاعتماد الكلي عليها.

الحل الأمثل يكمن في استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة في كتابة المسودات وجمع المعلومات، مع مراجعة بشرية دقيقة تضمن دقة وجودة المادة المنشورة.. يصبح التدريب المستمر للصحفيين على كيفية التعامل مع هذه الأدوات أمرًا محوريًا للحفاظ على أسس المهنة وصون البصمة الإنسانية التي تميز كل نص صحفي عن غيره.

الواقع يؤكد أن كل مرحلة من هذه المراحل الثلاث أعادت صياغة العلاقة بين الصحفي والقارئ.. في مرحلة «الديسك المركزي»، كان التركيز على الجودة الداخلية للمادة الصحفية، في المرحلة الرقمية أصبح التركيز على سرعة الوصول والدقة، أما اليوم، فالذكاء الاصطناعي يقدم إمكانات هائلة لتحليل البيانات، ومقارنة الأخبار، وتقديم محتوى مصاغ بعناية، لكن بقاء المسئولية النهائية في يد الصحفي البشري يضمن الحفاظ على البعد الأخلاقي والتحريري للنص.

الجمع بين هذه المحطات الثلاثة، أي تنظيم «هيكل» المؤسسي، والتحول الرقمي، ودمج الذكاء الاصطناعي، يمكن أن يشكل نموذجًا مستقبليًا متوازنًا للصحافة المصرية، يتيح للصحفيين صقل مهاراتهم، والاعتماد على أدوات تكنولوجية متقدمة لزيادة الإنتاجية، دون أن يتراجع مستوى التدقيق والمهنية أو يتلاشى الدور الإنساني للنص. الصحافة صناعة تتطلب انسجامًا بين المعرفة، الخبرة، التقنية، والوعي الأخلاقي.

الدروس المستخلصة واضحة: الصحافة المصرية نجحت في مواجهة تحديات داخلية وخارجية، وتمكنت من الحفاظ على هويتها المهنية رغم تغير الوسائل والتقنيات. أثبتت هذه المهنة مرونتها وقدرتها على التكيف، لكنها في الوقت نفسه تواجه اختبارًا جديدًا يتطلب توازنًا دقيقًا بين التكنولوجيا والبصمة الإنسانية.

المستقبل سيشهد مزيدًا من التداخل بين الصحافة التقليدية والإعلام الرقمي والذكاء الاصطناعي. المؤسسات الصحفية الناجحة هي التي ستتبنى نماذج هجينة، تتيح للصحفي استثمار التكنولوجيا دون التضحية بمبادئ المهنة. يصبح التحدي الأكبر تطوير مهارات جديدة، ليس فقط في التحرير والكتابة، بل في إدارة المحتوى، والتحقق من المعلومات، وفهم أدوات الذكاء الاصطناعي، وتحويلها إلى أدوات لدعم الصحافة لا للتحكم بها بالكامل.

الصحافة المصرية، إذا أحسنت إدارة التوازن بين الإرث المؤسسي، والتحول الرقمي، والتكنولوجيا الحديثة، ستكون قادرة على مواجهة تحديات المستقبل بشكل أكثر مرونة وفاعلية. ستصبح أكثر قدرة على تقديم محتوى موثوق، يواكب الأحداث العالمية بسرعة ودقة، ويصون القيم المهنية التي شكلت هويتها عبر سبعة عقود.

نحن أمام لحظة فاصلة جديدة، لكنها، ككل المحطات السابقة، فرصة لإعادة التأكيد على أن الصحافة فن إدارة المعرفة والوعي العام، توظيف أدوات متطورة وبصمة إنسانية لا يمكن للآلة وحدها أن تعوضها. الصحافة المصرية أمام اختبارها الأكبر: الحفاظ على إرثها، ومواءمة عملها مع مستقبل تقني سريع التغير، دون أن تفقد روحها وقيمها التي صنعتها أجيال من الصحفيين المبدعين.

اقرأ أيضاًحكمة الرئيس ولاءاته

من يذهب إلى الآخر: أمريكا والغرب أم قطر؟



‫0 تعليق

اترك تعليقاً