
محمد سعد عبد اللطيف
بقلم – محمد سعد عبد اللطيف
في مسرح التاريخ، لا تسير الأحداث على وتيرة واحدة، بل تتكثّف أحياناً في لحظات حاسمة تُشبه الانفجارات الكونية التي تعيد تشكيل خرائط الوعي والجغرافيا والذاكرة معاً. هناك لحظات يتوقف فيها الزمن ليعلن نهاية عهد وبداية آخر، لحظات لا تُشبه غيرها، لأنها تُحوِّل مسار الإنسانية بأسره. والتاريخ لا يُقاس فقط بتوالي السنوات والأيام، بل يُقاس بمفاصله الكبرى، تلك التي تهزّ الثوابت وتفتح أبواباً لعصور جديدة. ومن بين هذه اللحظات، يظل عام 1979 واليوم الحادي عشر من سبتمبر 2001 علامتين فارقتين. الأول دشّن بدايات التحولات الكبرى التي لا تزال آثارها ماثلة حتى اليوم، والثاني فجّر الانعطافة الأشد في القرن الحادي والعشرين، وغيّر وجه النظام الدولي إلى غير رجعة. ما بين مكة ونيويورك، ومن روح الثورة إلى رماد البرجين، تمتد خيوط قصة لا تزال تصوغ واقعنا، وتتركنا أمام سؤال مفتوح: هل نتعلم من دروس التاريخ، أم نعيد تكرار مآسيه في حلقات لا تنتهي؟
1979: العام الذي دشّن التحولات، ،
لم يكن عام 1979 مجرد رقم على رزنامة القرن العشرين. كان عاماً مكتظّاً بالتحولات التي جعلت منه نقطة مفصلية في تاريخ العالم. في هذا العام قامت الثورة الإيرانية، لتعلن سقوط حكم الشاه، وصعود نظام ولاية الفقيه بقيادة آية الله الخميني. بهذا الحدث لم تتغير إيران وحدها، بل اهتزت المنطقة بأسرها، وارتفعت رايات خطاب ديني ـ سياسي تجاوز حدود الجغرافيا الإيرانية، وأعاد تشكيل المزاج العام في الشرق الأوسط، فاتحاً الباب أمام صعود تيارات الإسلام السياسي التي ستغدو لاعباً أساسياً في العقود اللاحقة. وفي قلب أوروبا الشرقية، كان حدث آخر لا يقل تأثيراً: انتخاب البابا يوحنا بولس الثاني، القادم من بولندا، على العرش الرسولي في الفاتيكان. لم يكن مجرد رجل دين، بل كان رمزاً لمقاومة الشيوعية، وصوتاً ألهم شعوب الكتلة الشرقية. زيارته التاريخية إلى وطنه بولندا أشعلت شرارة الاحتجاجات العمالية والنقابية التي قادت لاحقاً إلى سقوط جدار برلين، ومن ثم انهيار المنظومة الاشتراكية برمتها. وفي الشرق الأوسط أيضاً، كان السلام يدخل طوراً جديداً مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل. هذه الاتفاقية لم تكن مجرد ورقة سياسية، بل كانت إعلاناً عن تحول استراتيجي في الصراع العربي ـ الإسرائيلي. دخلت المنطقة مرحلة جديدة، تراجعت فيها لغة الحرب التقليدية، لتحل محلها لغة التفاوض، لكنها فتحت في الوقت نفسه أبواب الانقسام داخل الصف العربي، وعمّقت من شعور الفلسطينيين بالعزلة. أما في بغداد، فقد صعد صدام حسين إلى قمة السلطة، ممسكاً بمقاليد العراق بقبضة حديدية. لم يكن ظهوره حدثاً محلياً فحسب، بل كان إيذاناً بمرحلة جديدة من الصراع الإقليمي والدولي، خصوصاً مع اندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية بعد عام واحد فقط، تلك الحرب التي استمرت ثماني سنوات، واستنزفت قدرات البلدين، وأعادت رسم توازنات المنطقة. لكن الحدث الأكثر إثارة كان في مكة المكرمة. في نوفمبر 1979، ومع مطلع القرن الهجري الجديد (1400هـ)، شهد الحرم المكي اقتحاماً مسلحاً دامياً قاده جهيمان العتيبي. كانت تلك اللحظة صدمة كبرى للعالم الإسلامي، إذ تحوّل أقدس مكان في الإسلام إلى ساحة مواجهة. ورغم قمع التمرّد، فإنها كانت الشرارة التي أطلقت ولادة تيارات مسلّحة جديدة، سرعان ما ستجد لنفسها مكاناً في العالم الإسلامي، وتعيد رسم ملامح الخريطة الفكرية والسياسية وصولاً إلى القاعدة لاحقاً. إذاً، عام 1979 لم يكن عاماً عادياً، بل كان بمثابة “العام التأسيسي” لعصر جديد.ثورة في طهران، دماء في مكة، اتفاقية سلام في كامب ديفيد، وصعود رجل قوي في بغداد.كلها أحداث متزامنة صنعت مزيجاً متفجراً غيّر وجه المنطقة والعالم.
2001: اليوم الذي اهتز فيه النظام العالمي–
إذا كان عام 1979 قد دشّن البدايات، فإن الحادي عشر من سبتمبر 2001 كان يوم الانفجار الكبير. حين سقط برجا التجارة العالمية في نيويورك، لم يكن الأمر مجرد هجوم إرهابي غير مسبوق، بل كان إعلاناً عن نهاية مرحلة وبداية أخرى. في تلك اللحظة، ومع دخان البرجين المنهارين، انهارت أيضاً فكرة أن أميركا حصن منيع لا يُمس. لقد ضُرب قلب القوة الاقتصادية والمالية للعالم، وتزعزع الإحساس بالثقة الذي حكم النظام الدولي منذ نهاية الحرب الباردة. كان الاتحاد السوفيتي قد انهار، وأصبحت أميركا القطب الأوحد، لكن ذلك اليوم أظهر أن القطب الأوحد نفسه هشّ أمام ضربات عابرة للحدود.جاء الرد الأميركي سريعاً وعنيفاً: “الحرب على الإرهاب”. لم يكن هذا الشعار مجرد رد فعل، بل تحوّل إلى عقيدة سياسية وعسكرية حكمت العالم لعقدين كاملين. فاحتُلّت أفغانستان، ثم العراق، وتحوّل الشرق الأوسط إلى مسرح مفتوح للتجارب العسكرية والسياسية. ومنذ ذلك اليوم، تغيّرت الخرائط وتبدلت الأولويات: أصبح الأمن القومي الأميركي مرادفاً للأمن العالمي، وصار على كل دولة أن تختار: إما أن تكون مع أميركا أو ضدها. لم يكن الأمر مقتصراً على السياسة والحرب فقط. لقد غيّرت أحداث سبتمبر مفاهيم الأمن والسيادة والديمقراطية. أصبح العالم محكوماً بثنائية جديدة: “إرهابي/غير إرهابي”. تلاشت الحدود التقليدية بين الداخل والخارج، وغدا الفضاء الرقمي ميدان رقابة، والمطارات ساحات تفتيش لا للجسد وحده، بل للهوية والذاكرة أيضاً. لقد ضرب الإرهاب نيويورك، لكنه أصاب في العمق فكرة الحرية نفسها. تحت شعار “الحرب على الإرهاب” توسّعت برامج المراقبة، وتقيّدت الحريات المدنية حتى في قلب الديمقراطيات الغربية. وكان العالم العربي والإسلامي هو الساحة الأكثر اشتعالاً، حيث تداخلت الصراعات الطائفية والعرقية مع التدخلات الدولية، فكانت النتيجة حروباً لا تنتهي في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن.
الجغرافيا السياسية الجديدة–
لم تعد الجغرافيا مجرد خرائط حدودية، بل تحوّلت إلى خرائط ذهنية ونفسية. أصبح الشرق في المخيال الغربي مرادفاً للخطر، فيما صار الغرب في المخيال الشرقي مرادفاً للهيمنة والعدوان. وبين هذين التصورين المتناقضين، وُلدت الفوضى الكونية. أحداث 11 سبتمبر فتحت الباب أمام سياسات التدخل الاستباقي، وأطلقت سباقاً جديداً للتسلح، وأعادت ترتيب أولويات القوى العظمى. ومع مرور عقدين، تغير المشهد: انسحبت أميركا من أفغانستان مهزومة، والعراق ما يزال يعيش ارتباكاً دائماً، بينما صعدت الصين وروسيا كمنافسين يعيدان تشكيل ملامح نظام عالمي متعدد الأقطاب. وفي الشرق الأوسط، تعصف الحروب من سوريا إلى اليمن، وتتعمق الانقسامات بين الطوائف والأعراق. لقد ولّدت الحرب على الإرهاب حروباً صغيرة داخل الحروب الكبرى، وولّدت معها تنظيمات أشد عنفاً مثل “داعش”، لتصبح المنطقة رهينة لعنف لا ينتهي.
ما بعد البرجين: نهاية العولمة أم بدايتها؟
كانت العولمة قبل 2001 وعداً بالاندماج، لكنها بعد البرجين تحوّلت إلى ساحة صراع اقتصادي وتكنولوجي. نعم، انهار البرجان في نيويورك، لكن من تحت رمادهما وُلدت عولمة جديدة، أكثر خشونة وأقل إنسانية. لقد دخل العالم في حروب العملات، وسباقات التكنولوجيا، ومنافسات الذكاء الاصطناعي. تحوّل الاقتصاد العالمي إلى ميدان صراع مفتوح بين الولايات المتحدة والصين، بينما انشغلت أوروبا بصراعاتها الداخلية وأزماتها الاقتصادية. وفي الوقت نفسه، اشتعلت خطوط النار في أوكرانيا، وظهرت ملامح حرب باردة جديدة، لكن هذه المرة متعددة الأقطاب.
مفاصل التاريخ بين البدايات والنهايات، ، ربما كان عام 1979 هو “العام التأسيسي”، بينما كان 11 سبتمبر 2001 هو “اليوم المفصلي” الذي أدخل العالم مرحلة لا تزال أبوابها مشرعة على كل الاحتمالات. بين صدام الحضارات وحوارها، بين الأمن الكوني والفوضى الكونية، يعيش العالم اليوم لحظة حائرة. لقد كانت مكة عام 1979 شرارة البداية، ونيويورك عام 2001 لحظة الانفجار. وما بينهما، تشكّل تاريخ كامل من الدماء والخرائط الممزقة، من الأوهام الكبرى عن العولمة إلى الحقائق الصادمة عن عودة القوميات، ومن وعود الديمقراطية إلى كوابيس الحروب الأهلية. واليوم، ونحن نقترب من ربع قرن على أحداث البرجين، لا يزال السؤال الفلسفي مفتوحاً: هل كانت تلك الأحداث نهاية التاريخ كما بشّر فوكوياما؟ أم كانت بداية لفوضى جديدة، تُعيد تشكيل العالم على أنقاض العولمة نفسها؟ وهل يتعلم العالم من دروسه، أم يكررها كما لو أنه محكوم بلعنة دائرية لا تنتهي؟
من مكة إلى نيويورك، بين 1979 و2001، تتجلى صورة القرن الأخير بكل تناقضاته. من روح الثورة إلى رماد البرجين، ومن وعود العولمة إلى كوابيس الانقسام، ما زال العالم يعيش تحت ظلال تلك اللحظات. إنها ليست مجرد أحداث تاريخية، بل هي مفاصل وجودية، تجعلنا ندرك أن التاريخ لا يُصنع في الكتب، بل في الانفجارات التي تغيّر وجه العالم. لقد دشّن عام 1979 البدايات، وفجّر 11 سبتمبر النهايات، لكن الأبواب ما تزال مفتوحة على مستقبل غير محسوم. فهل يكون القادم صدام حضارات، أم حوار أديان؟ هل يكون اندماجاً رقمياً يوحّد البشرية، أم فوضى جديدة تفتتها أكثر؟ ذلك هو السؤال الذي سيظل معلقاً في أفق القرن الحادي والعشرين.
–محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث متخصص في الشأن الجيوسياسي والصراعات الدولية.. ، ،
