فعلاً، يا توم باراك، لا وجود لكيان اسمه «الشرق الأوسط» إلا في قواميس التضليل الأمريكية.. مصطلحكم مشبوه منذ طرحكم له للمرة الأولى.. صاغته بلادك، بخبث واضح، لإقحام إسرائيل (الوظيفية) قسراً في جسد منطقتنا العريقة.. الشرق، ليس المنطقة التي تتعمد أنت وقومك تجاهلها من وراء محيطين (الأطلسي شرقاً، والهادئ غرباً)، إلا إذا كان البُعد الجغرافي سبباً في ضحالة معرفتك بتاريخنا، وكاشفاً لزيف خطابك حوله.
لنكن أكثر وضوحاً، يا باراك.. حين تتحدث كـ«مبعوث أمريكي» عن منطقتنا بلغة التعالي، فأنت تكرر خطيئة أسلافك.. ظنّوا أن بضع قواعد وأساطيل عسكرية تكفي لإعادة هندسة المجتمعات.. لم يقرأوا أن أرضنا عصيّة على الكسر.. لم يفهموا أنها جربت الغزاة منذ آلاف السنين، قهرت معظمهم، وتواجه بقاياهم.. أنتم مجرد فصل قصير في كتاب طويل، تتوالى صفحاته منذ آلاف السنين، من معركة قادش إلى معركة عين جالوت، ومن مواجهة الاحتلال البريطاني إلى انتصارات أكتوبر عام 1973.
هنا، الشرق الكبير، يا باراك، ليس «قرى متناثرة ولا قبائل» تبحث عن مأوى.. هنا بلاد صنعت التاريخ منذ فجره، كتبت الحضارات على صخورها، وهبطت الأديان السماوية على أرضها.. هنا تمازجت الأعراق، تعانقت الألسن، وتكوّنت الهويات الجامعة.. أما بلادك فحديثة العهد، وُلدت قبل قرنين ونصف فقط، من مهاجرين ومطرودين ومرضى ومغامرين طاردهم الفقر أو السجون، قبل أن يرفعوا علماً على أرض مسروقة من شعوب أُبيدت بلا رحمة.
*
يا باراك، سأذكّرك بما يوجعك.. «مقهى الفيشاوي» في القاهرة (1797)، الذي يجلس على مقاعده العابرون منذ 228 سنة وشهرين و26 يوماً، يكاد يكون في عُمر دولتك (249 سنة وشهرين و22 يوماً).. الفرق أنّ المقهى لا يزال شاهداً حيّاً على التاريخ، بينما بلادك حديثة العهد في حساب الحضارات.. هذا وحده كافٍ ليضعك في حجمك الطبيعي، ويضع بلادك في خانتها الدقيقة على خريطة التاريخ.
هل تدرك، يا «باراك»، معنى أن يقف مقهى في قلب القاهرة شاهداً على تقلبات القرون؟ إنه دليل على أن التاريخ ليس بضاعة في أيديكم. أنتم بلا شرعية تاريخية، فلا تحاولوا عبثاً فرض رواية زائفة تضعون فيها أنفسكم (وإسرائيل) في قلب المنطقة كأنها حقيقة. أنتم غرس غريب لا يندمج ولا ينتمي، فكيف تأتون لتلقنونا دروساً في «الدولة» و«الهوية»؟ أي عبثٍ هذا؟!
أتعرف، يا باراك، ماذا يعني أن تكون مصر دولة مركزية منذ آلاف السنين؟ ماذا تعني أعمدة معابدنا التي واجهت عواصف القرون دون انحناء، وأوراق البردي التي حفظت أولى الشرائع، وأحجار الأهرامات؟ هل تفهم أن مصر تقرأ على جدرانها تاريخ متعدد الطبقات، وأنها ستبقى، كما كانت دائماً، بوابة العبور بين القارات، وملتقى البحرين، ومرآة الحضارات؟
دولة تقف في وجه الغزاة، تُسقطهم واحداً تلو الآخر، من الهكسوس إلى التتار، ومن الحملات الصليبية إلى المخططات الحديثة التي لا تهدأ، من محاولات التمييع إلى مشاريع التهجير؟ وهل تعرف ماذا تعني أجراس الكنائس حين تُقرع لتعلن أن الإيمان هنا لم ينكسر، وأن تصدح المآذن منذ أربعة عشر قرناً فتملأ السماء بنداء الوحدة واليقين، وأن يفتح الأزهر أبوابه منذ أكثر من ألف عام ليعلّم الناس ويضيء العقول؟
*
حدثنا عن بلادك، يا باراك، ماذا فعلت؟! غزت فيتنام ثم خرجت تجر أذيال الهزيمة.. حاولت السطو على أفغانستان والعراق فغرقت في وحلٍ لا قرار له، وتركت وراءها دولاً ممزقة وشعوباً محطمة.. دعمت، مباشرة وبالوكالة، ما سُمّي بـ«الربيع العربي»، فإذا بالخراب يلاحق عملاءها الذين اعتلوا المشهد على جثث الأبرياء وبقايا الأوطان.. هل هذه ملامح دولة مركزية أو أمة صانعة تاريخ، أم صورة كيان وظيفي بلا جذور، لا يعرف سوى لغة الجشع الشامل، حيث حلّت تتجسد الدماء والخراب والفشل؟!
بلادك التي تدّعي قيادتها للعالم لم تزل حتى اليوم غارقة في أزماتها الداخلية: صراعات عنصرية لم تنتهِ منذ قرنين، ومجتمع منقسم بين الأبيض والأسود، بين الشمال والجنوب، بين اليمين واليسار. لا تُجمّعكم إلا لغة المال. أما نحن، فعلى الرغم من الخلافات، يجمعنا نهر وتاريخ ورسالة، وحين نتخاصم نعود إلى أصل واحد.أنتم بلا أصل إلا العنف، أما نحن فمخزن الحضارة وذاكرة الإنسانية.
تتعمد الكذب، يا باراك، عندما تتحدث عن «الدول القومية» كأنها اختراع بريطاني – فرنسي عام 1916 (اتفاقية مارك سايكس – فرانسوا جورج بيكو).. كأنك لم تقرأ أن مصر دولة منذ آلاف السنين، بجيش وحدود ونظام حكم، يوم كانت أوروبا قبائل غارقة في ظلمات العصور الوسطى.. كأنك لم تدرك أن هذه المنطقة ولّادة إمبراطوريات، من قدماء المصريين إلى العباسيين والأمويين.. تختصرون الزمن في تقسيم استعماري على الورق، بينما نحن نتنفس التاريخ من كل حجر وورقة وبردية ومسجد وكنيسة.
*
قولك، إن «سايكس – بيكو» أنشأت الدول، سذاجة أو تضليل.. التاريخ سبق الورق.. مصر موجودة منذ آلاف السنين، والشام منارة منذ الألفية الأولى، والعراق كتب ملحمة جلجامش قبل أن يتعلم أجدادك الأبجدية.. كيف تختزل كل هذا بحدود مرسومة بالمسطرة في مكاتب لندن وباريس؟ ربما أنتم لا ترون إلا الورق، لأنكم بلا جذور.. أما نحن، فالأرض ذاتها دفترنا المفتوح، والذاكرة ممتدة بامتداد الزمن.
تقول، يا باراك، إن المنطقة مجرد قبائل، وأنا أقول لك: القبيلة في شرقنا ليست نهاية المطاف.. صحيح أن الهرم الاجتماعي يبدأ بالفرد، فالعائلة، فالقرية، فالقبيلة، لكنه صعد إلى الأمة والحضارة.. هنا الأصل والعراقة.. هنا جرى النيل والفرات، وكتبت الألواح، ونزلت الوصايا.. هنا رُسمت الخرائط الأولى، وأُضيئت المدن الأولى، وصيغت القوانين الأولى.. أما أنتم فمجرد بقايا، «خليط» من اللغات والأعراق، لم تصهروا هويتكم إلا بالبارود والإبادة.
إن اختزال المنطقة في قبائل، كما فعلت، ليس إلا إهانة للتاريخ، لكنه يكشف ضحالة ثقافتك أنت، لا واقعنا نحن.. هذه ليست أرضاً تنتظر من يكتب تعريفها، بل هي التي تعرّف العالم.. من هنا خرجت الحروف والأديان والأفكار، ومن هنا بدأت الخرائط.. أما بلادك، فلم تدخل الوعي البشري إلا قبل مئتي عام، بفضل البوارج والبنوك.. فأيهما الأصل وأيهما الفرع؟
*
يا، باراك، خطابك ليس سوى إعادة إنتاج لمقولة استعمارية قديمة: أن المنطقة بلا مراكز، وأنها لا تعيش إلا بوصاية الخارج.. هذه نظرة لا ترى إلا النفط والممرات البحرية وإسرائيل، لكنها عمياء عن القاهرة ودمشق وبغداد والقدس.. عمياء عن الأزهر والقديس أنطونيوس، عن صلاح الدين وقطز ومحمد علي.. عمياء عن شعر المتنبي، وعن فكر ابن خلدون، وعن هندسة ابن الهيثم.. لا بأس، العمى لا يلغي الحقيقة.
احترم نفسك، يا باراك، وانظر لواقعكم المُر.. نحن لا نحتاج إلى محاضرات من مبعوث جاء من بلد لا يعرف كيف يدير جيرانه في نصف الكرة الغربي، فكيف له أن يعلّمنا إدارة حضارات عمرها آلاف السنين؟ نحن لا نحتاج إلى وصاية جديدة، ولا إلى مبعوث يختزلنا في قبائل.. نحن نحتاج أن تعترفوا بحقيقتين: أنكم دولة فتية، وأنكم لم تأتوا لتبقوا.. جرب غيرك: البريطانيون والفرنسيون والبرتغاليون.. كلهم رحلوا، وسترحلون أنتم أيضاً.
مضى زمن الأساطير، يا «باراك».. .التاريخ لم يبدأ ولن ينتهي عندكم. من يتمسّك بأوهام السيطرة فليعدّ حساباته: تدخلاتكم المتكررة تخلّف دوماً فراغاً يتسع لكل أنواع العنف، ولا تخلق إلا بدائل أقسى لمن حاولتم ترويضهم. الحلول تبدأ بالاحترام المتبادل، بسياسات تمنح الشعوب الحق في تقرير مصيرها، وبشراكات تضع التنمية والبنية التحتية والتعليم في مقدمة الأولويات. لا تستخفوا بنا. الأنهار، المعابد، المعارك، وحتى مقاهينا القديمة لا تكذب، شاهدة على أن جذورنا أقوى من بوارجكم، وأن تاريخنا يعزّز قوتنا ويرسّخ أقدامنا، وأن الخلود يليق بنا. ليتك تفهم يا «باراك»!